فصل: الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي

وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية‏.‏ فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا بهم كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مولى القوم منهم ‏"‏ وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر وفقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم‏.‏ فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال‏.‏ وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها وتعدد الآباء في ولايتها‏.‏ ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة‏.‏ فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه لا بالانتساب في الفرس‏.‏ وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها‏.‏ ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده‏.‏ وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنما بنى مجدة نسب الولاء في الدولة ولحمة الاصطناع فيها والتربية‏.‏ وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبيته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها‏.‏ وانتفع بالثانية لوجودها‏.‏ وهذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النارعندهم ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم‏.‏ وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له‏.‏ والوجود شاهد بما قلناه‏.‏ و ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏‏.‏ والله ورسوله أعلم‏.‏

  الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء

اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله‏.‏ فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات‏:‏ الإنسان وغيره كائنة فاسدة بالمعاينة‏.‏ وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصاً الإنسانية‏.‏ فالعلوم تنشأ ثم تدرس وكذا الصنائع وأمثالها‏.‏ والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة‏.‏ وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كرامة به وحياطة على السر فيه‏.‏ وأول كل شرف خارجية كما قيل وهي الخروج عن الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث‏.‏ ثم إن نهايته أربعة آباء وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه‏.‏ وابنه من بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلأ انه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له‏.‏ ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد‏.‏ ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم‏.‏ فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبييهم كما قلناه‏.‏ بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله‏.‏ فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول وينهدم بناء بيته‏.‏ هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب‏:‏ ‏"‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ‏"‏‏.‏ واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلأ فقد يدثر البيث من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم‏.‏ وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب‏.‏ واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر له ومقلد وهادم‏.‏ وهو أقل ما يمكن‏.‏ وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ‏"‏ إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد‏.‏ وفي التوراة ما معناه‏:‏ أنا الله ربك طائق غيورمطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب‏.‏ ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان‏:‏ هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة‏.‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ بأي شيء قال‏:‏ من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري وهم بيت قيس وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول‏.‏ فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا‏.‏ فقال كسرى‏:‏ كلهم سيد يصلح لموضعه‏.‏ وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني‏.‏ وهذا كله يدل على أن الاربعة الآباء نهاية في الحسب‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها

اعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم اقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار‏.‏ فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم‏.‏ واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف‏.‏ وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد‏.‏ وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة والعصبية‏.‏ وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم‏.‏ وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم‏.‏ وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً وعيشاً خصباً دون الحي الآخر‏.‏ فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافآ في القوة والعدد‏.‏ سنة الله في خلقه‏.‏

  الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك

وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك‏.‏ وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر‏.‏ وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس‏.‏ ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً‏.‏ فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت‏.‏ ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع‏:‏ ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ‏"‏‏.‏ ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها‏.‏ فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم‏.‏ وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد‏.‏ وهكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة‏:‏ فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها وصار الملك أجمع لها وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها‏.‏ وذلك ملك آخر دون الملك المستبد وهو كما وقع للترك في دولة بني العباس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع ملوك الشيعة والعلوية والعباسية‏.‏ فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك‏.‏ وإن عاقها عن بلوغ الغاية

  الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف

وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها‏.‏ فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك‏.‏ فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة‏.‏ وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض‏.‏ وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب‏.‏ وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم‏.‏ فقد تبين أن الترف من عوائق الملك‏.‏ والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏   الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل

والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة‏.‏ واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا‏:‏ ‏"‏ إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ‏"‏ ي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى‏.‏ ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له‏:‏ ‏"‏ اذهب أنت وربك فقاتلا ‏"‏‏.‏ وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما خبرهم به موسى من أن الشام لهم وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به‏.‏ فعاقبهم الله بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه‏.‏ ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب‏.‏ ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر‏.‏ سبحان الحكيم العليم‏.‏ وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله‏.‏ ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب‏.‏ فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلأ إذا استهونته عن القتل والتلف وأن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة قد حصل له الانقياد للذل والمذلة عائقة كما قدمناه‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل ‏"‏ فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للمذلة‏.‏ هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر‏.‏ فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر‏.‏ ومن هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك‏.‏ وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك ولا تمت لهم دولة‏.‏ وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال‏:‏ أنا اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري معكم فمرحباً بكم وبارك الله لنا ولكم وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحبون ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم‏.‏ فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف‏.‏

  الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس

لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسياسة‏.‏ وقد ذكرنا أن المجد له أصل ينبني عليه وتتحقق به حقيقتة وهو العصبية والعشير وفرع يتم وجوده ويكفله وهو الخلال‏.‏ وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس‏.‏ وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب‏.‏ وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه‏.‏ فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصلاحية لذلك‏.‏ وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى‏.‏ فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية‏.‏ فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف وحمل الكل وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ورغبة الدعاء منهم والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتبذل في أحوالهم والانقياد للحق والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثاً منهم والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم‏.‏ وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ‏"‏‏.‏ واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه‏.‏ والله يخلق ما يشاء ويختار‏.‏ واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم‏.‏ وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمم طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه‏.‏ وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية‏.‏ لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة‏.‏ فالصالحون للدين والعلماء للجأ إليهم في إقامة مراسم الشريعة والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل‏.‏ فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها‏.‏ ولهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق‏.‏ فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم‏:‏ ‏"‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ‏"‏‏.‏ والله تعالى أعلم في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطوائف لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة‏.‏ وأيضا فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء‏.‏ فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على اللأمم النائية‏.‏ وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضى الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال‏:‏ أن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فقال‏:‏ ‏"‏ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ‏"‏‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة وحمير كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى‏.‏ ولم يكن ذلك لغير العرب من الأمم‏.‏ وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول ومجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة‏.‏ وهذا شأن هذه الأمم الوحشية‏.‏ فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً وأبعد من مراكزها نهاية‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار لا شريك له‏.‏